الشخص السوي: هل هو حقيقي أم مجرد مفهوم مثالي؟ نظرة علمية وفلسفية في عمق النفس البشرية
بقلم الدكتور /فيصل البجلي
مقدمة: من هو الشخص السوي؟
الشخص السوي هو الفرد الذي يتمتع بتوازن داخلي بين احتياجاته النفسية، العاطفية، والاجتماعية، ويعيش حياة متناغمة مع نفسه ومع الآخرين. السوية ليست غيابًا للمعاناة أو المشكلات، بل هي القدرة على التعامل معها بمرونة وتجاوزها دون التأثير السلبي على جودة الحياة. السوية النفسية تعني أن يكون الفرد قادرًا على التفكير بشكل منطقي، التعبير عن مشاعره بطريقة متزنة، واتخاذ قرارات تعكس قيمه ومبادئه. لكن، ما الذي يجعل الشخص سويًا؟ وهل من الممكن أن يتحول الأشخاص الذين عانوا في الماضي إلى أسوياء في المستقبل؟ لفهم ذلك، سنستعرض أبرز النظريات العلمية والفلسفية التي تناولت مفهوم السوية.
النظريات العلمية والفلسفية عن السوية النفسية
1. سيغموند فرويد: التوازن بين الهو والأنا والأنا الأعلى
يرى فرويد، مؤسس التحليل النفسي، أن السوية تتحقق عندما يستطيع الفرد تحقيق توازن بين مكونات النفس الثلاث:
• الهو (Id): يمثل الغرائز والرغبات الفطرية.
• الأنا (Ego): يمثل العقل المنطقي الذي يدير هذه الرغبات ضمن حدود الواقع.
• الأنا الأعلى (Superego): يمثل القيم والمبادئ الأخلاقية.
الشخص السوي وفقًا لفرويد هو من يستطيع تحقيق توازن بين هذه القوى الثلاث دون أن يطغى جانب على الآخر. إذا استطاع الأنا السيطرة على صراعات الهو والأنا الأعلى، فإنه يحقق السوية. على سبيل المثال، شخص عاش طفولة مليئة بالصراعات النفسية قد يحتاج إلى مواجهة هذه الصراعات في المستقبل لتحقيق التوازن.
2. كارل روجرز: تحقيق الذات والعيش بأصالة
يرى روجرز، مؤسس العلاج المتمركز حول الشخص، أن السوية تتحقق عندما يعيش الإنسان حياة أصيلة تتوافق مع تصوراته الذاتية. وفقًا لروجرز:
• السوية ترتبط بقدرة الشخص على تحقيق الذات، وهي أعلى درجة من التطور الشخصي.
• الشخص السوي يعيش وفق قيمه الداخلية، وليس وفق ما يفرضه الآخرون.
شخص عانى في الماضي يمكنه تحقيق السوية إذا استطاع تجاوز التأثيرات السلبية لهذه التجارب والتصالح مع ذاته. هذا يعني أن الماضي لا يحدد المستقبل، بل أن وعي الإنسان وقدرته على التغيير هما الأساس.
3. ماسلو: تحقيق الذات في قمة هرم الاحتياجات
ابتكر ماسلو هرم الاحتياجات، حيث وضع تحقيق الذات كأعلى مستوى من التطور النفسي. يرى ماسلو أن الشخص السوي هو من:
• يُلبي احتياجاته الأساسية (الأمان، الانتماء، التقدير).
• يسعى لتحقيق إمكانياته الكاملة.
وفقًا لهذه النظرية، الأشخاص الذين عانوا في الماضي يمكنهم أن يصبحوا أسوياء إذا تمكنوا من تلبية احتياجاتهم الأساسية وتجاوز العوائق النفسية.
4. إريك إريكسون: النجاح في مراحل التطور النفسي-الاجتماعي
يرى إريكسون أن السوية تعتمد على تجاوز الأزمات في مراحل التطور النفسي والاجتماعي. على سبيل المثال:
• بناء الثقة في الطفولة.
• تحقيق الهوية في الشباب.
• الشعور بالإنجاز في منتصف العمر.
الشخص الذي عانى في طفولته قد يواجه تحديات في بناء الثقة أو الهوية، لكن مع الدعم النفسي والبيئة المناسبة، يمكنه تجاوز هذه الأزمات والوصول إلى السوية.
5. ألبرت إيليس: التفكير العقلاني
وفقًا لنظرية العقلانية الانفعالية لإيليس، الشخص السوي هو من يتبنى أفكارًا عقلانية تُمكنه من التعامل مع المشكلات بفعالية.
• التفكير غير العقلاني (مثل تضخيم المشكلات أو التشاؤم) يُضعف السوية.
• التفكير العقلاني (مثل رؤية الأمور بمنظور متزن) يُعزز السوية.
الأشخاص الذين عانوا في الماضي يمكنهم تحقيق السوية إذا تعلموا استبدال أفكارهم السلبية بأفكار أكثر إيجابية وعقلانية.
6. فيكتور فرانكل: معنى الحياة وتجاوز المعاناة
يرى فرانكل، مؤسس العلاج بالمعنى، أن السوية تتحقق عندما يجد الشخص معنى لحياته، حتى في ظل المعاناة.
• الشخص السوي هو من يستطيع تحويل الألم إلى فرصة للنمو.
• الأفراد الذين عاشوا تجارب صعبة يمكنهم تحقيق السوية إذا أعادوا صياغة تجاربهم ومنحوها معنى.
هل يمكن أن يصبح الأشخاص الذين عانوا في الماضي أسوياء؟
الإجابة: نعم، وبقوة. العديد من النظريات تؤكد أن السوية ليست حالة يولد بها الإنسان، بل هي عملية ديناميكية يمكن تحقيقها من خلال التكيف مع الحياة والتعلم من التجارب. العوامل التي تساعد على تحقيق السوية رغم المعاناة تشمل:
1. الدعم النفسي: من الأسرة أو الأصدقاء أو المعالجين.
2. الوعي الذاتي: إدراك التأثيرات السلبية للماضي والعمل على تجاوزها.
3. التعلم والنمو: استخدام المعاناة كفرصة لاكتساب الحكمة والقوة.
الخلاصة: السوية رحلة وليست وجهة
الشخص السوي هو من يحقق التوازن بين احتياجاته النفسية والاجتماعية، ويتجاوز تحدياته بمرونة ووعي. السوية ليست غيابًا للمشكلات، بل هي القدرة على إدارتها بفعالية. الأشخاص الذين عانوا في الماضي يمكنهم تحقيق السوية التامة إذا ما استثمروا في فهم أنفسهم والعمل على تطويرها. الماضي قد يترك أثرًا، لكن المستقبل دائمًا يحمل فرصة للتغيير والنمو.